فصل: تفسير الآية رقم (91):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: معالم التنزيل المشهور بـ «تفسير البغوي»



.تفسير الآية رقم (91):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)}
قوله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْء الأرْضِ} أي: قدر ما يملأ الأرض من شرقها إلى غربها، {ذَهَبًا} نصب على التفسير، كقولهم: عشرون درهمًا. {وَلَوِ افْتَدَى بِهِ} قيل: معناه لو افتدى به، والواو زائدة مقحمة، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ}.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أنا محمد بن بشار، أخبرنا غندر، أخبرنا شعبة، عن أبي عمران قال: سمعت أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله لأهونِ أهل النار عذابا يوم القيامة: لو أنّ لك ما في الأرض من شيء أكنتَ تفدي به؟ فيقول: نعم فيقول: أردتُ منك أهونَ من ذلك وأنت في صلب آدم أن لا تشرك بي شيئا فأبيت إلا أن تشرك بي».

.تفسير الآية رقم (92):

{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)}
قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ} يعني: الجنة، قاله ابن عباس وابن مسعود ومجاهد، وقال مقاتل بن حيان: التقوى، وقيل: الطاعة، وقيل: الخير، وقال الحسن: أن تكونوا أبرارًا.
أخبرنا محمد بن عبد الله الصالحي، أنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري، أنا حاجب بن أحمد الطوسي أخبرنا محمد بن حماد قال: أخبرنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البِرَّ وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزالُ الرجلُ يصدقُ ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتَبَ عند الله صديقًا، وإياكم والكذبَ فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزالُ الرجلُ يكذبُ ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتبَ عند الله كذابا».
قوله تعالى: {حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} أي: من أحبِّ أموالكم إليكم، روى الضحاك عن ابن عباس: أن المراد منه أداء الزكاة.
وقال مجاهد والكلبي: هذه الآية نسختها آية الزكاة، وقال الحسن: كل إنفاق يبتغي به المسلم وجه الله حتى الثمرة ينال به هذا البِّر وقال عطاء: لن تنالوا البِّر أي: شرف الدين والتقوى حتى تتصدقُوا وأنتم أصحاء أشحاء.
أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أنا زاهر بن أحمد، أنا أبو إسحاق الهاشمي، أنا أبو مصعب، عن مالك، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة أنه سمع أنس بن مالك يقول: «كان أبو طلحة الأنصاري أكثر أنصاريّ بالمدينة مالا وكان أحب أمواله إليه بِيْرُحَاء وكانت مستقبلة المسجد، وكان رسول الله يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّبٍ، قال أنس: فلما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن الله تعالى يقول في كتابه: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرُحاء وإنها صدقة لله أرجو برَّها وذُخَرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث شئت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بخٍ بخٍ ذلك مالٌ رابح. أو قال: ذلك مال رابح وقد سمعتُ ما قلتَ فيها وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال أبو طلحة أفعلُ يا رسول الله فقسّمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه».
وروي عن مجاهد قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري أن يبتاع له جارية من سبي جلولاء يوم فُتحتْ فدعا بها فأعجبته، فقال: إن الله عز وجل يقول: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} فأعتقها عمر.
وعن حمزة بن عبد الله بن عمر قال: خطرت على قلب عبد الله بن عمر هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} قال ابن عمر: فذكرتُ ما أعطاني الله عز وجل، فما كان شيء أعجب إليّ من فلانة، هي حرة لوجه الله تعالى، قال: لولا أنني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها.
{وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} أي: يعلمه ويجازي به.

.تفسير الآيات (93- 94):

{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)}
قوله تعالى: {كُلّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} سبب نزول هذه الآية: أن اليهود قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: تزعم أنك على ملة إبراهيم؟ وكان إبراهيم لا يأكل لحوم الإبل وألبانها وأنت تأكلها، فلست على ملته! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كان ذلك حلالا لإبراهيم عليه السلام» فقالوا: كلُّ ما نحرمه اليوم كان ذلك حرامًا على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا فأنزل الله تعالى هذه الآية {كُلّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} يريد: سِوَى الميتة والدم، فإنه لم يكن حلالا قط.
{إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسِهِ} وهو يعقوب عليه السلام {مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} يعني: ليس الأمر على ما قالوا من حرمة لحوم الإبل وألبانها على إبراهيم، بل كان الكلُّ حلالا له ولبني إسرائيل، وإنما حرّمها إسرائيل على نفسه قبل نزول التوراة، يعني: ليست في التوراة حرمتُها.
واختلفوا في الطعام الذي حرّمه يعقوب على نفسه وفي سببه، قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبي: كان ذلك الطعام: لحمان الإبل وألبانها، وروي أن يعقوب مرض مرضًا شديدًا فطال سُقْمُه فنذر لئن عافاه الله من سقمه ليُحرِّمَنِّ أحبَّ الطعام والشراب إليه، وكان أحب الطعام إليه لحمان الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها فحرّمهما.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي والضحاك: هي العروق.
وكان السبب في ذلك أنه اشتكى عرق النَّسا وكان أصل وجعه فيما روى جُويبر ومقاتل عن الضحاك: أن يعقوب كان نذر إن وهبه الله اثنى عشر ولدًا وأتى بيت المقدس صحيحًا أن يذبح آخرهم فتلقاه مَلك من الملائكة فقال: يا يعقوب إنك رجل قوي فهل لك في الصراع، فعالجه فلم يصرعْ واحدٌ منهما صاحبَه فغمزه المَلك غمزة فعرض له عرق النسا من ذلك، ثم قال له: أمَا إني لو شئت أن أصرعك لفعلت ولكن غمزتك هذه الغمزة لأنك كنت نذرت إن أتيت بيت المقدس صحيحًا ذبحت آخر ولدك، فجعل الله لك بهذه الغمزة من ذلك مخرجًا، فلما قدمها يعقوب أراد ذبح ولده ونسي قول الملَكِ فأتاه الملَكُ وقال: إنما غمزتك للمخرج وقد وُفي نذرُك فلا سبيل لك إلى ولدك.
وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي: أقبل يعقوب من حران يريد بيت المقدس حين هرب من أخيه عيصو: وكان رجلا بطيشًا قويًا فلقيه ملك فظن يعقوب أنه لص فعالجه أن يصرعه فغمز الملك فخذ يعقوب، ثم صعد إلى السماء ويعقوب عليه السلام ينظر إليه، فهاج به عرق النسا ولقي من ذلك بلاءً وشدةً وكان لا ينام بالليل من الوجع، ويبيت وله زقاء، أي: صياح، فحلف يعقوب لئن شفاه الله أن لا يأكل عرقًا ولا طعاما فيه عرق، فحرمه على نفسه، فكان بنوه بعد ذلك يتبعون العروق يخرجونها من اللحم.
وروى جُويبر عن الضحاك عن ابن عباس: لمّا أصاب يعقوب عرق النس وصف له الأطباء أن يجتنب لحمان الإبل فحرمها يعقوب على نفسه.
وقال الحسن: حرّم إسرائيل على نفسه لحم الجزور تعبدًا لله تعالى: فسأل ربَّه أن يجيز له ذلك فحرمه الله على ولده.
ثم اختلفوا في حال هذا الطعام المحرم على بني إسرائيل بعد نزول التوراة، وقال السدي: حرّم الله عليهم في التوراة ما كانوا يحرمونه قبل نزولها، وقال عطية: إنما كان محرّمًا عليهم بتحريم إسرائيل فإنه كان قد قال: لئن عافاني الله لا يأكله لي ولدٌ، ولم يكن محرّمًا عليهم في التوراة، وقال الكلبي: لم يحرمه الله {عليهم} في التوراة وإنما حُرم عليهم بعد التوراة بظلمهم، كما قال الله تعالى: {فبظلمٍ من الذين هادوا حرمنا عليهم طيباتٍ أُحلّت لهم} [سورة النساء الآية 160] وقال الله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} إلى أن قال: {ذلك جزيناهم ببغيهم وإنّا لصادقون} [سورة الأنعام الآية 146] وكانت بنو إسرائيل إذا أصابوا ذنبًا عظيمًا حرّم الله عليهم طعامًا طيبًا أو صبّ عليهم رِجْزًا وهو الموت.
وقال الضحاك: لم يكن شيء من ذلك حرامًا عليهم ولا حرمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم اتّباعًا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله، فكذّبهم الله عز وجل فقال: {قُلْ} يا محمد {فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا} حتى يتبين أنه كما قلتم، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فلم يأتوا. فقال الله عز وجل: {فمن افترى على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون}.

.تفسير الآيات (95- 98):

{قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)}
{قُلْ صَدَقَ اللَّه فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} وإنما دعاهم إلى اتباع ملة إبراهيم لأن في اتباع ملة إبراهيم اتباعه صلى الله عليه وسلم.
قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للمسلمين: بيت المقدس قبلتنا، وهو أفضل من الكعبة وأقدم، وهو مهاجر الأنبياء، وقال المسلمون بل الكعبة أفضل، فأنزل الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ}.
{فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَام إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَه كَانَ آمِنًا} وليس شيء من هذه الفضائل لبيت المقدس.
واختلف العلماء في قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} فقال بعضهم: هو أول بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض، خلقه الله قبل الأرض بألفي عام، وكانت زَبْدَةٌ بيضاءَ على الماء فدُحيت الأرض من تحته، هذا قول عبد الله بن عمر ومجاهد وقتادة والسدي.
وقال بعضهم: هو أول بيت بني في الأرض، رُوي عن علي بن الحسين: أن الله تعالى وضع تحت العرش بيتًا وهو البيت المعمور، وأمر الملائكة أن يطوفوا به، ثم أمر الملائكة الذين هم سكان الأرض أن يبنوا في الأرض بيتا على مثاله وقدره، فبنوا واسمه الضراح، وأمر مَنْ في الأرض أن يطوفوا به كما يطوف أهل السماء بالبيت المعمور.
ورُوي أن الملائكة بنوه قبل خلق آدم بألفي عام، وكانوا يحجونه، فلما حجه آدم، قالت الملائكة: بر حجك يا آدم حججنا هذا البيت قبلك بألف عام، ويرُوى عن ابن عباس أنه قال: أراد به أنه أول بيت بناه آدم في الأرض، وقيل: هو أول بيت مبارك وضع في الأرض هدىً للناس، يروى ذلك عن علي بن أبي طالب، قال الضحاك: أول بيت وُضع فيه البركة وقيل: أول بيت وضع للناس يُحجُّ إليه. وقيل: أول بيت جعل قبلة للناس. وقال الحسن والكلبي: معناه: أول مسجد ومتعَبِّدٍ وضع للناس يعبد الله فيه كما قال الله تعالى: {في بيوت أذن الله أن ترفع} يعني المساجد.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أنا محمد بن إسماعيل، أخبرنا موسى بن إسماعيل، أخبرنا عبد الواحد، أنا الأعمش، أخبرنا إبراهيم بن يزيد التيمي، عن أبيه، قال سمعت أبا ذر يقول: قلت يا رسول الله أيُّ مسجد وُضع في الأرض أولا؟ قال: «المسجد الحرام، قلت ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون سنة، ثم أينما أدركتْكَ الصلاة بعدُ فصلِّ فإن الفضل فيه».
قوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} قال جماعة: هي مكة نفسها، وهو قول الضحاك، والعرب تعاقبت بين الباء والميم، فتقول: سَبَّدَ رأسه وسمَّده وضربة لازبٍ ولازم، وقال الآخرون: بكة موضع البيت ومكة اسم البلد كله.
وقيل: بكة موضع البيت والمطاف، سميت بكة: لأن الناس يتباكون فيها، أي يزدحمون يبك بعضُهم بعضًا، ويصلي بعضهم بين يدي بعض ويمر بعضهم بين يدي بعض.
وقال عبد الله بن الزبير: سميت بكة لأنها تبك أعناق الجبابرة، أي تدقها فلم يقصدها جبار بسوء إلا قصمه الله.
وأما مكة سميت بذلك لقلة مائها من قول العرب: مَكَّ الفصيل ضرْعَ أمه وأمتكه إذا امتص كل ما فيه من اللبن، وتدعى أم رحم لأن الرحمة تنزل بها.
{مُبَارَكًا} نصب على الحال أي: ذا بركة {وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} لأنه قبلة المؤمنين {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} قرأ ابن عباس {آيَةٍ بَيِّنَةٍ} على الواحدان، وأراد مقام إبراهيم وحده، وقرأ الآخرون {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} بالجمع فذكر منها مقام إبراهيم وهو الحجر الذي قام عليه إبراهيم، وكان أثر قدميه فيه فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، ومن تلك الآيات: الحجر الأسود والحطيم وزمزم والمشاعر كلها، وقيل: مقام إبراهيم جميع الحرم، ومن الآيات في البيت أن الطير تطير فلا تعلو فوقه، وأن الجارحة إذا قصدت صيدًا فإذا دخل الصيدُ الحرم كفَّتْ عنه، وإنه بلد صدر إليه الأنبياء والمرسلون والأولياء والأبرار، وإن الطاعة والصدقة فيها تُضاعف بمائة ألف.
أخبرنا عبد الواحد المليحي، أنا أبو محمد الحسن بن أحمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، أخبرنا أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزهري، أنا مالك بن أنس عن زيد بن رباح وعبيد الله بن أبي عبد الله عن أبي عبد الله الأغرّ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».
قوله عز وجل: {وَمَنْ دَخَلَه كَانَ آمِنًا} أن يحاج فيه، وذلك بدعاء إبراهيم عليه السلام حيث قال: رب اجعلْ هذا بلدًا آمنا، وكانت العرب في الجاهلية يقتل بعضهم بعضا ويغير بعضهم على بعض ومن دخل الحرم أمن من القتل والغارة، وهو المراد من الآية على قول الحسن وقتادة وأكثر المفسرين قال الله تعالى: {أولَمْ يروا أنا جعلنا حرمًا آمنًا ويُتخطّف الناسُ من حولهم} [سورة العنكبوت الآية 67] وقيل: المراد به أن من دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آمنًا، كما قال تعالى: {لتدخُلنَّ المسجدَ الحرام إن شاء الله آمنين} [سورة الفتح الآية 27] وقيل: هو خبر بمعنى الأمر تقديره: ومن دخله فأمنُّوه، كقوله تعالى: {فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدال في الحج} [البقرة- 197] أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا، حتى ذهب بعض أهل العلم إلى أن من وجب عليه القتل قصاصًا أو حدًا فالْتجأ إلى الحرم فلا يُستوفَى منه فيه، ولكنه لا يُطعم ولا يُبايع ولا يُشاري حتى يخرج منه فيقتل، قاله ابن عباس، وبه قال أبو حنيفة، وذهب قوم إلى أن القتل الواجب بالشرع يُستوفى فيه أما إذا ارتكب الجريمة في الحرم يستوفى فيه عقوبته بالاتفاق.
وقيل: معناه ومن دخله معظّمًا له متقربًا إلى الله عز وجل كان آمنًا يوم القيامة من العذاب.
قوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} أي: ولله فرضٌ واجبٌ على الناس حجُّ البيت، قرأ أبو جعفر وحمزة والكسائي وحفص {حِجّ الْبَيْتِ} بكسر الحاء في هذا الحرف خاصةً، وقرأ الآخرون بفتح الحاء، وهي لغة أهل الحجاز، وهما لغتان فصيحتان ومعناهما واحد.
والحج أحد أركان الإسلام، أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أنا محمد بن يوسف، أخبرنا محمد بن إسماعيل، أنا عبد الله بن موسى، أنا حنظلة بن أبي سفيان، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسولُ الله، وإقامِ الصلاة وإيتاءِ الزكاة والحج وصوم رمضان».
قال أهل العلم: ولِوُجوب الحج خمسُ شرائط: الإسلام والعقل والبلوغ والحرية والاستطاعة، فلا يجب على الكافر ولا على المجنون، ولو حجا بأنفسهما لا يصح لأن الكافر ليس من أهل القربة ولا حكم لفعل المجنون، ولا يجب على الصبي ولا على العبد، ولو حج صبي يعقل، أو عبد يصح حجهما تطوعًا لا يسقط به فرض الإسلام عنهما فلو بلغ الصبي، أو عُتق العبد بعدما حج واجتمع في حقه شرائط وجوب الحج وجب عليه أن يحج ثانيًا، ولا يجب على غير المستطيع، لقوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} غير أنه لو تكلف فحج يسقط عنه فرض الإسلام.
والاستطاعة نوعان، أحدهما: أن يكون مستطيعًا بنفسه والآخر: أن يكون مستطيعًا بغيره، أما الاستطاعة بنفسه أن يكون قادرًا بنفسه على الذهاب ووَجَد الزادَ والراحلة، أخبرنا عبد الواحد بن محمد الكسائي الخطيب، ثنا عبد العزيز بن أحمد الخلال، ثنا أبو العباس الأصم، أخبرنا الربيع بن سليمان، أخبرنا الشافعي، أخبرنا سعيد بن سالم، عن إبراهيم بن يزيد، عن محمد بن عباد بن جعفر، قال: قعدنا إلى عبد الله بن عمر فسمعته يقول: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما الحاج؟ قال: «الشعث التفل» فقام رجل آخر فقال: يا رسول الله: أي الحج أفضل؟ قال: «العجُّ والثج» فقام رجل آخر فقال: يا رسول الله ما السبيل؟ قال: «زاد وراحلة».
وتفصيله: أن يجدَ راحلةً تصلح لمثله، ووجدَ الزادَ للذهاب والرجوع، فاضلا عن نفقة عياله ومن تلزمه نفقتهم وكسوتهم لذهابه ورجوعه، وعن دَيْن يكون عليه، ووجد رفقة يخرجُون في وقت جرت عادة أهل بلده بالخروج في ذلك الوقت، فإن خرجوا قبله أو أخروا الخروج إلى وقت لا يصلون إلا أن يقطعوا كل يوم أكثر من مرحلة لا يلزمهم الخروج في ذلك الوقت ويشترط أن يكون الطريق آمنًا فإن كان فيه خوف من عدوٍ مسلمٍ أو كافرٍ أو رَصديّ يطلب شيئا لا يلزمه، ويُشترط أن تكون المنازل المأهولة معمورة يجد فيها الزاد والماء، فإن كانَ زمان جُدوبةٍ تفرّق أهلها أو غارتْ مياهها فلا يلزمه، ولو لم يجد الراحلة لكنه قادر على المشي، أو لم يجد الزاد ولكن يمكنه أن يكتسب في الطريق لا يلزمه الحج، ويستحب لو فعل، وعند مالك يلزمه.
أما الاستطاعة بالغير هو: أن يكون الرجل عاجزًا بنفسه، بأن كان زَمِنًا أو به مرض غير مرجو الزوال، لكن له مال يمكنَّه أن يستأجر من يحج عنه، يجب عليه أن يستأجر، أو لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه أو أجنبيّ الطاعةَ في أن يحج عنه، يلزمه أن يأمره إذا كان يعتمدُ صِدقَه، لأن وجوب الحج يتعلق بالاستطاعة، ويقال في العرف: فلان مستطيع لبناء دار وإن كان لا يفعله بنفسه، وإنما يفعله بماله أو بأعوانه.
وعند أبي حنيفة لا يجب الحج ببذل الطاعة، وعند مالك لا يجب على المعضوب في المال.
وحُجّةُ من أوجبه ما أخبرنا أبو الحسن السرخسي أخبرنا زاهر بن أحمد أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب عن مالك عن ابن شهاب عن سليمان بن يسار عن عبد الله بن عباس أنه قال: كان الفضل بن عباس رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة من خَثْعَم تستفتيه، فجعل الفضل ينظر إليها وتنظر إليه، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يصرف وجه الفضل إلى الشق الآخر، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يثبت على الراحلة أفأحج عنه؟ قال: «نعم».
قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} قال ابن عباس والحسن وعطاء: جَحَدَ فَرْضَ الحج، وقال مجاهد: من كفر بالله واليوم الآخر.
وقال سعيد بن المسيب: نزلت في اليهود حيث قالوا: الحج إلى مكة غير واجب.
وقال السدي: هو من وجد ما يحج به ثم لم يحج حتى مات فهو كفرٌ به أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو الحسن الكَلَمَاتي، أخبرنا أبو بكر محمد بن عمر، أخبرنا سهل بن عمار، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا شريك، عن الليث عن عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لم تَحْبسْه حاجةٌ ظاهرة أو مرض حابس أو سلطان جائر، ولم يحجَّ فليمتْ إنْ شاء يهوديا وإنْ شاء نصرانيًا».